من مسلة بابل إلى المحاكم الحديثة: كيف صنع حمورابي القانون

شريعة حمورابي، أول قانون مكتوب في التاريخ، لم تُنظّم فقط الحياة البابلية بل أرست مبادئ العدالة عبر العصور. اكتشف كيف شكّلت هذه الشريعة الفكر القانوني الإنساني، وأثّرت في الأنظمة الحديثة والدينية حتى يومنا هذا.

من مسلة بابل إلى المحاكم الحديثة: كيف صنع حمورابي القانون
حمورابي والعدالة الأولى: أقدم قانون مكتوب في التاريخ


في عمق التاريخ، وعبر طمي دجلة والفرات، برزت شريعة حمورابي كأول محاولة بشرية لتقنين العدالة بشكل منهجي ومكتوب. هذا المقال يسبر أغوار واحدة من أقدم وأشمل الوثائق القانونية التي عرفتها الحضارة، لا بوصفها مجرد نصوص حجرية منقوشة، بل كنظام متكامل كشف عن وعي قانوني متقدّم، يُنظم تفاصيل الحياة، من الملك إلى العبيد، ومن الزراعة إلى القضاء. بمنهج تحليلي وتاريخي، نُعيد قراءة هذه الشريعة لفهم أثرها العميق على نظم القوانين القديمة والحديثة، وتفاعلها مع السياقات الدينية والاجتماعية، وصولًا إلى كونها الأساس الرمزي للعدالة المكتوبة في الوعي البشري.

من هو حمورابي ولماذا تُعد ملحمته عالية الشهرة؟

حين نبحث في صفحات التاريخ القديم، يبرز اسم حمورابي كواحد من أبرز القادة الذين تركوا بصمة لا تُمحى في مسيرة الحضارة البشرية. لم يكن حمورابي مجرد ملك حكم بلاد بابل، بل كان مشرّعًا عظيمًا، وسياسيًا محنّكًا، وصاحب رؤية ساهمت في تأسيس نظام قانوني يُعد من أوائل محاولات تنظيم حياة البشر بالقانون والعدالة.

حمورابي هو سادس ملوك سلالة بابل الأولى، وقد حكم ما بين عامي 1792 و1750 قبل الميلاد، في فترة تُعرف بالعصر البابلي القديم. ورث العرش عن والده سين موباليت، وورث معه مملكة محدودة النفوذ، لكنه نجح خلال فترة حكمه في توسيع نفوذه وتوحيد معظم بلاد الرافدين تحت سلطته، من خلال مزيج من الحملات العسكرية والتحالفات السياسية والإصلاحات الإدارية.

لماذا تُعد ملحمة حمورابي عالية الشهرة؟

الشهرة الكبرى التي نالها حمورابي لا تعود فقط إلى براعته في الحكم، بل تتجلى بشكل خاص في ما يُعرف بـ"شريعة حمورابي"، وهي مجموعة من القوانين المنقوشة على مسلة حجرية ضخمة عُثر عليها في مدينة سوسة (في إيران حاليًا).

هذه الشريعة تُعد واحدة من أقدم وأشمل القوانين المكتوبة التي وصلت إلينا من العالم القديم. ما يجعل هذه "الملحمة التشريعية" شهيرة للغاية:

  1. سبْقها التاريخي: شريعة حمورابي تُعد من أولى المحاولات البشرية لتقنين العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ضمن نظام قانوني شامل.

  2. مضمونها التفصيلي: اشتملت على أكثر من 280 مادة قانونية تنظم شتى مناحي الحياة، من الأسرة والزواج والميراث، إلى الزراعة والتجارة والعقوبات الجنائية.

  3. نظرتها للعدالة: رغم أن الشريعة تعتمد في كثير من موادها على مبدأ "القصاص" (العين بالعين)، إلا أنها مثّلت بداية لفكرة أن القانون فوق الجميع، سواء كان غنيًا أو فقيرًا، حرًا أو عبدًا.

  4. أثرها الثقافي والتاريخي: أصبحت شريعة حمورابي مرجعًا مهمًا في دراسة تطور القوانين عبر العصور، وتأثرت بها حضارات لاحقة مثل الفينيقيين والحثيين وربما حتى بعض نصوص العهد القديم.

مسله حمورابي 

المعنى اللغوي والوصفي لـ "مسلة حمورابي"

  • المسلة: هي نُصُب حجري قائم، غالبًا ما يكون عموديًا، تُنقش عليه كتابات أو رسوم. كانت تُستخدم في الحضارات القديمة لنقش القوانين أو الاحتفالات أو تسجيل الانتصارات العسكرية.

  • إذًا، مسلة حمورابي هي عمود حجري ضخم، ارتفاعه حوالي 2.25 متر، مصنوع من حجر الديوريت الأسود، نُقشت عليه قوانين الملك حمورابي باللغة الأكادية وبالخط المسماري.

المعنى الرمزي والحضاري لـ "مسلة حمورابي"

"مسلة حمورابي" لا تعني فقط قطعة حجر منقوشة، بل هي:

  1. أقدم نص قانوني شامل مكتوب عرفه الإنسان تقريبًا، وهي تمثل بداية الانتقال من الحكم الفردي المطلق إلى الحكم الذي يُقيّده القانون.

  2. رمز للعدالة والسلطة المنظمة: تظهر في أعلاها صورة الملك حمورابي يتلقى رموز الحكم والعدالة من الإله شمش، مما يرمز إلى أن القانون يستمد شرعيته من الإله، لا من أهواء الحاكم.

  3. شاهد على تطور الفكر القانوني: تُعدّ وثيقة حيّة تُظهر كيف كان البابليون ينظرون إلى العدالة، وكيف تعاملوا مع مشاكل المجتمع مثل الجريمة، الأسرة، التجارة، والطبقات الاجتماعية.

كيف عرّف حمورابي نفسه في بداية مسلته؟

في افتتاح مسلته الشهيرة، لم يكتفِ حمورابي بسرد القوانين، بل استهلّها بمقدّمة مهيبة قدّم فيها نفسه كشخص مفوّض إلهيًّا لتنظيم شؤون الناس وإقامة العدل، واصفًا نفسه بتوصيفات تحمل طابعًا دينيًا، سياسيًا، وأخلاقيًا في آنٍ واحد.

قال حمورابي عن نفسه:

"أنا حمورابي، العابد الورع، والعبد الذليل للآلهة الكبيرة، خليفة سومولايل، ووريث سن-موبليت القوي، من نسل السلالة الملكية الأبدية. الملك الجبّار، شمس بابل، المُشرقة على بلاد سومر وأكاد، الملك الذي تصيخ له أسماع ضفاف العالم الأربع، حبيب عشتار..."

ويتابع:

"عندما طلب مني مردوك أن أنظم الناس، وأكون قائدًا للبلاد، نشرتُ العدالة بينهم، وحققتُ الحق، وجلبتُ السعادة للبشر؛ آنذاك شرّعتُ ما يلي..."

بهذه الكلمات، لم يُقدّم حمورابي نفسه كحاكم دنيوي فقط، بل كـأداة للإرادة الإلهية، مهمّته أن ينشر العدل، يحمي الضعفاء، ويقود المجتمع نحو نظام متماسك يردع الظالم ويُنصف المظلوم.

وقد اختتم المسلة بنداء واضح موجه لكل مظلوم، قائلاً:

"على المواطن المظلوم الذي يرغب في رفع الحيف عن نفسه أن يتقدّم أمام صورتي بصفتي ملك العدالة، ويقرأ ما كتبت، ويسمع كلماتي الثمينة، فتمثالي يهديه سواء السبيل، ويُطلعه على خفايا الأمور ليصل إلى حقه، ويتنفّس الصعداء."

بهذا التقديم، أراد حمورابي أن يرسّخ في الأذهان أن القانون ليس فقط أمرًا تنظيميًا، بل رسالة مقدسة، ووسيلة لتحقيق العدل الإلهي على الأرض، يجسّدها الحاكم العادل الذي لا يحكم بالهوى، بل بالتكليف والمسؤولية.

محتوى مواد شريعة حمورابي (282 مادة قانونية):

تقسّمت هذه المواد إلى محاور رئيسية تُنظم مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، نعرضها هنا مع أمثلة بارزة:

1. المواد 1–5: القضاء وشهادة الزور

  • تعالج نزاهة القضاء وتُدين القضاة الذين يُصدرون أحكامًا غير عادلة.

  • مثال:

    • المادة 5: "إذا أصدر القاضي حكمًا وحرّره بوثيقة ثم نقضه لاحقًا، يُغرَّم 12 ضعف المبلغ، ويُمنع من القضاء للأبد."

2. المواد 6–25: الجرائم والسرقة والخطف

  • تشمل قوانين ضد السرقة، النهب، خطف الأطفال، الهروب من الخدمة، وغيرها.

  • أمثلة:

    • المادة 6: "إذا سرق رجل ممتلكات للإله أو القصر، يُقتل."

    • المادة 8: "إذا سرق رجل ثورًا أو خنزيرًا أو قاربًا للإله أو القصر، يدفع 30 ضعفًا، وإذا لم يستطع، يُقتل."

    • المادة 25: "إذا تظاهر رجل بإطفاء حريق وسرق من المنزل، يُرمى في النار."

3. المواد 26–65: الأراضي، الزراعة، الأشجار

  • تنظّم استئجار الأراضي، الزراعة، الري، والإهمال المؤدي إلى خسائر زراعية.

  • أمثلة:

    • المادة 42: إذا استأجر رجل أرضًا ولم يزرعها، يدفع لصاحبها قيمة المحصول المتوقع.

    • المادة 53: إذا انهار سد بسبب إهماله وأغرق أرض الآخرين، فعليه التعويض.

    • المادة 56: إذا خرّب أحد أرض جاره بمياه حقله، يدفع 10 كور من الحبوب لكل 6.5 هكتار.

4. المواد 66–126: التجارة، الإيجار، البيوت، العقود

  • تتناول أعمال التجار، استئجار المنازل، مسؤوليات الوكلاء، والمخالفات في العقود.

5. المواد 127–194: الأحوال الشخصية والزواج والميراث

  • تركّز على شؤون الأسرة، حقوق المرأة، الطلاق، الخيانة، الخطبة، التبني، الإرث.

  • أمثلة:

    • المادة 127: اتهام امرأة متزوجة بالخيانة دون دليل يُعاقب بالموت.

    • المادة 171: تحتفظ الزوجة الأولى بهدية الزواج وبائنتها، وتعيش في بيت زوجها طيلة حياته.

6. المواد 195–214: الإيذاء الجسدي والقصاص

  • تعالج العقوبات على الاعتداءات البدنية، وهي قائمة على مبدأ القصاص.

  • أمثلة:

    • المادة 196: "إذا فقأ رجل عين رجل، تُفقأ عينه."

    • المادة 200: "إذا كسر رجل عظم رجل آخر، يُكسر عظمه."

7. المواد 215–240: الحرفيون، الأطباء، الأجور والمسؤولية المهنية

  • تنظّم أجور الأطباء والبنّائين والنجّارين، وتعاقب الأخطاء المهنية.

  • أمثلة:

    • إذا أجرى طبيب عملية فاشلة أدت لموت المريض، تُقطع يده.

8. المواد 241–277: الحيوانات، الإيجار، الأضرار الناتجة عنها

  • تحدد المسؤولية عن الحيوانات المستأجرة، وأجورها، وتعويض الأضرار الناتجة عنها.

9. المواد 278–282: شؤون العبيد

  • تحدد حقوق العبيد، شروط تحريرهم، العقوبات عليهم وعلى من يساعدهم في الهرب.

  • أمثلة:

    • العبد الذي يقول كلمات بذيئة ضد والديه بالتبني يُقطع لسانه.

    • إذا عاد إلى عائلته الأصلية دون إذن، تُفقأ إحدى عينيه.

كيف تم اكتشاف مسلة حمورابي؟

رغم أن شريعة حمورابي وُضعت في بابل، عاصمة الدولة البابلية القديمة، إلا أن المسلة الأصلية التي نُقشت عليها الشريعة لم تُكتشف في بابل، بل في مدينة سوسة (Shush)، الواقعة في إيران الحالية، وهذا ما يثير الفضول لدى كثيرين: كيف انتقلت المسلة من بابل إلى سوسة؟

1. قصة الاكتشاف:

في عام 1901 م، أجرى فريق من علماء الآثار الفرنسيين بقيادة جاك دي مورغان (Jacques de Morgan) حفريات أثرية في مدينة سوسة، التي كانت عاصمة العيلاميين، أحد أعداء البابليين التاريخيين. وخلال الحفر، عُثر على مسلة حجرية ضخمة طولها حوالي 2.25 متر، مصنوعة من حجر الديوريت الأسود القاسي، ومغطاة بالكامل تقريبًا بنقوش مسمارية باللغة الأكادية (لغة حمورابي الرسمية). كانت هذه هي مسلة شريعة حمورابي.

2. كيف وصلت المسلة إلى هناك؟

يرجّح المؤرخون أن المسلة نُقلت إلى سوسة على يد ملك عيلامي يُدعى شوتروك ناخونتي، في إحدى غزواته على بابل في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ويبدو أنه أراد أن يستولي على رموز القوة والعظمة البابلية ويعرضها في عاصمته كغنيمة حرب وشهادة على تفوقه.

3. أهمية هذا الاكتشاف:

اكتشاف مسلة حمورابي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية والقانونية حول العالم، للأسباب التالية:

  1. أعاد إحياء جزء مهم من التاريخ البابلي الذي كان غامضًا حتى ذلك الحين.

  2. فتح باب المقارنة بين القوانين القديمة (كشريعة موسى) وشريعة حمورابي.

  3. مثّل دليلاً مادّيًا على أن الحضارات القديمة كانت تملك نظمًا قانونية متقدمة ومعقدة، تُشبه إلى حدّ ما الأنظمة الحديثة.

4. أين توجد المسلة اليوم؟

نُقلت المسلة بعد اكتشافها إلى متحف اللوفر في باريس، حيث لا تزال معروضة حتى اليوم في قسم آثار الشرق الأدنى، وتحظى باهتمام كبير من الزوّار والباحثين.

أثر شريعة حمورابي في القوانين اللاحقة

لا تُعد شريعة حمورابي مجرد مجموعة من القوانين التي نظّمت المجتمع البابلي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بل تمثّل نقطة تحول في تاريخ القانون، أثّرت بشكل مباشر وغير مباشر على القوانين التي جاءت بعدها في حضارات متعددة، سواء في الشرق القديم أو حتى في بعض الأسس القانونية الغربية لاحقًا.

1. التأثير في القوانين القديمة في الشرق الأدنى

  • شريعة حمورابي كانت مصدر إلهام واضح لعدد من الشرائع القديمة التي ظهرت بعده في حضارات مثل:

    • الحثيين في الأناضول

    • الآشوريين (قوانين آشور الوسطى)

    • الفينيقيين

    • شريعة أور-نامو (رغم أنها أقدم، إلا أن أسلوب حمورابي أثّر في لاحقيه أكثر وضوحًا)

وقد تبنّت هذه الشرائع مبدأ "العقوبة بالمثل"، ووثّقت جرائم مشابهة من سرقة وزنا وقتل، لكنها غالبًا كانت أقل شمولية من شريعة حمورابي.

2. التأثير المحتمل على الشريعة اليهودية (شريعة موسى)

يشير كثير من الباحثين إلى وجود تشابهات كبيرة بين شريعة حمورابي وبعض النصوص القانونية في العهد القديم (التوراة)، وخصوصًا في سفر الخروج وسفر اللاويين:

  • مثلًا:

    • مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" موجود في كلا النظامين.

    • قوانين حول الزنا، السرقة، الأضرار البدنية، والميراث.

رغم وجود اختلافات جوهرية، خصوصًا في الجانب الديني والأخلاقي، فإن الشبه في البنية وأسلوب الصياغة لا يمكن تجاهله. يرى بعض الباحثين أن العبرانيين قد تأثروا بالشريعة البابلية أثناء وجودهم في بابل (في فترة السبي البابلي)، أو عبر تفاعل ثقافي أقدم في أرض كنعان.

3. التأثير القانوني الرمزي في العصر الحديث

  • في القرون الحديثة، ومع اكتشاف المسلة عام 1901، أصبحت شريعة حمورابي رمزًا لتاريخ القانون.

  • تُدرّس اليوم في كليات الحقوق حول العالم كمثال على أول محاولة لفرض العدالة المكتوبة والعلنية.

  • كثير من المفكرين الغربيين رأوا فيها الأساس الفلسفي لفكرة أن القانون يجب أن يُدوَّن، ويُعلن، ويُطبّق على الجميع دون استثناء.

كما أن صورة حمورابي وشريعته تُزيّن مبنى المحكمة العليا الأمريكية في واشنطن، إلى جانب صور مشرّعين تاريخيين مثل موسى ونابليون، تأكيدًا لدوره كمؤسس لروح التشريع.

لم تكن شريعة حمورابي مجرد قوانين قاسية محفورة على حجر، بل وثيقة حضارية ناطقة بروح العدالة المبكرة، ومحاولة جريئة لتقنين السلوك البشري في زمن لم يكن فيه قانون إلا ما ينطق به الملك. لقد أرست هذه الشريعة مبادئ ما زالت تؤثر في نظم القضاء حتى اليوم، من مبدأ العقوبة المتناسبة إلى فكرة أن القانون يجب أن يكون مكتوبًا، مُعلَنًا، ويسري على الجميع. وبين سطورها، نجد فلسفة اجتماعية تُوازن بين السلطة والإله، بين المجتمع والفرد، بين الواجب والحق. إن قراءتها اليوم لا تُعد عودة للماضي فحسب، بل هي تذكير بأن روح القانون كانت دائمًا نابعة من سعي الإنسان الأبدي لتحقيق العدل.